عندما تتحول الجدران المعيقة إلى سلالم للصعود

حين ترى في الابتلاءات دروسًا للحياة

اليوم أقلب صفحة فصل من فصول حياتي. وهو فصل ظاهره مهني وباطنه مختلف تمامًا. فهو مليء بالتقلبات النفسية والأسئلة الوجودية وتبدل المفاهيم والمعاني. اليوم قدّمت استقالتي من وظيفة أمضيت فيها أربع سنوات. وكعادتي كنت دائمة التأمل والتفكر والمراجعة طيلة هذه السنوات، خصوصًا أني بدأت هذه الوظيفة بشغفٍ عالٍ ورغبةٍ كبيرةٍ في تحقيق أثرٍ حقيقيٍ، وما لبثت حتى ارتطمت بجدران عملاقة من التحديات.

قد يظن البعض أنها تحديات في صلب العمل، تحديات خاصة بكيفية التنفيذ أو تحقيق الأهداف، وهذا موجود بطبيعة الحال ولم يغب يومًا واحدًا، لكن الجدران التي ارتطمت بها لا علاقة لها بمجال العمل وأهدافه.

كل جدار هو اختبار نفسي وتحدٍّ مع ما اكتسبته من قناعات ومفاهيم خلال الفصول والمحطات السابقة. أو لعل الأمر أبسط من كل هذا التصور، لأنه واضح وصريح في القرآن الكريم، الذي هو دستور ومنهاج هذه الحياة. فقد قال المولى عز وجل: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. ما هذه الجدران إلا ابتلاءات من الله عز وجل، وهو أحب وأقرب إلى قلبي من تسميتها تحديات، لأن التسمية ستؤثر على اختيار آلية التعامل مع هذه الأمور.

إذا اتفقنا على أن القرآن هو دستور الحياة، فعندما تواجه تحديًا، وقبل أن تبدأ بسؤال نفسك: لماذا أواجه هذا التحدي؟ اسأل نفسك: ما أصل هذا الأمر في القرآن؟ ستجد أن القرآن لم يذكر لفظ تحدٍّ قط، إنما ذكر أننا سنواجه ابتلاءات وفتن: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾. فالآن تفهم أن التحدي الذي تمر به هو ابتلاء وفتنة، وحتى سيتسع مفهومك ليشمل أن أوقات النعم واليسر هي أيضًا فتنة. والفتن، كما قال الله عز وجل، هي مقياس لعمق إيمانك: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾. ولأن ميدان العمل هو حقل خصب لقياس صدق الإيمان، فهو مليء بالابتلاءات والفتن. ومع كل ابتلاء، كل ما يريده الله عز وجل منك هو أن تقدم أحسن ما لديك: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. ومن بين هذه الجدران التي واجهتها، أود مشاركة بعض أبرز الابتلاءات التي كانت عقبات عملاقة في طريقي.

الجدار الأول


لطالما كنت ضعيفة في المهارات الدبلوماسية، إذ كنت أراها نوعًا من المراوغة والتدليس. فأنا أولًا أرى أنه لا داعي لإخفاء الحقائق وتمييعها وتزيينها، مما يؤدي إلى ضياع المعنى والحق الذي فيه. وثانيًا، أنا ماهرة جدًا في المواجهة والنقاش والحوار، والتي، وبكل صراحة، أحيانًا تكون فعّالة ومجدية، وأحيانًا تكون عقيمة وغير مجدية. لكن منظوري هو أن يتم استخدام الوضوح والصراحة المباشرة التي تصب في المصلحة العامة. وكانت لي جولات وصولات خلال هذه السنوات في محاولة القضاء على هذه الظاهرة، ظاهرة “الدبلوماسية”.

أنا لست عنيدة، لكني أختار من أستمع له وأخذ برأيه. لكن حتى من أحترم مشورتهم، كانوا يثنون على ظاهرة الدبلوماسية، ويذمون استخدام المواجهة والوضوح بشكلٍ دائم. ومع الأيام والسنوات، وأنا أصر على رأيي وأسلوبي، أحسست بتعب وإرهاق شديد. وفي إحدى جلسات التفكر والمراجعة، دار الحوار التالي مع نفسي: أنا أعلم أني على صواب، لأني الوحيدة بينهم التي هي متخصصة فيما تقول، ولكن كل محاولاتي لتوضيح الأمر باءت بالفشل، رغم أني على صواب، فلماذا يحدث ذلك معي؟ ماذا علي أن أفعل؟

ثم قلت لنفسي: لأذهب إلى القرآن لأرى إن كانت هناك قصة مشابهة. وتأملت في القرآن، واستوقفتني قصص الأنبياء. لكل نبي طريقة وأسلوب في دعوة قومه، وجميعهم جاؤوا بحجج وحتى معجزات لإثبات حقيقة لا ريب فيها، وهي حقيقة وجود الله عز وجل وتفرده بالعبادة.

أمانةً، صعقت وكأني أعرف الأمر لأول مرة، رغم دراستي لهذا الموضوع منذ الابتدائية، وهو أن طبع البشر الجدال، حتى مع الحق. فليس هناك أحق من الله عز وجل، ومع ذلك جادلوا فيه، وقالوا فيه ما ليس فيه سبحانه وتعالى. ومع ذلك، كان الأنبياء يستمرون في المحاولة وبأساليب مختلفة، إحداها المواجهة والوضوح، لكنهم استخدموا الدبلوماسية أيضًا، كما فعل إبراهيم عليه السلام في دعوة قومه، عندما نظر إلى النجوم والأفلاك. فقد كان يعلم أن الله عز وجل وحده مستحق للعبادة، لكنه جارى قومه في تفكيرهم، وأخذ ينظر في الاحتمالات الموجودة إلى أن توصل معهم بالمنطق إلى الله الحق سبحانه وتعالى.

صدقًا: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾.

وقلت لنفسي: هذه طبيعة الإنسان وديدنه، فهو جادل حتى في أمر الله عز وجل، فكيف تطلبين منهم الرضوخ لرأيك فقط لأنك المختصة فيما تقولين! وبالتالي، رضخت لظاهرة “الدبلوماسية” وأهميتها في بعض المواقف، وأيضًا أصبحت لا أنتظر أن يقتنع أحدٌ بما أقول.

الجدار الثاني


أنا، كما هو الحال مع أغلب البشر، أتعطش من حين لآخر لسماع التوكيدات من الآخرين. كما أن إحدى قيمي التي أعيش بها هي التقدير، بمعنى أن أقوم بتقدير كل ما هو في حياتي وأن يتم تقديري. وفي بيئة العمل الشديدة التنافس، من الطبيعي أن تجد من يسرق جهود الآخرين بأن يظهر في المشهد الأخير ويتلقى كل الشكر والإطراءات. ناهيك عن استخدامهم لفقاعات منصات التواصل الاجتماعي مثل لينكدإن، حيث يتم الترويج لأنواع من الإعلانات الزائفة في إبراز الإنجازات.

بالنسبة لي، لست ممن يعرفون استخدام أساليب التباهي بعملهم وجهدهم الحقيقي. وبالتالي، وخلال هذه السنوات، بُخس حقي في مواضع كثيرة. في أحد المشاريع المهمة التي عملت عليها فترة طويلة بتفانٍ عالٍ جدًا، ولا أدعي هنا أي مبالغة، رأيت بأم عيني أشخاصًا يهنئون شخصًا آخر بعيدًا كل البعد عن إتمام كلمة واحدة في المشروع. وأنا متأكدة تمام اليقين مما أقول، لأني كنت أقود المشروع. وصل بهم الحد إلى تهنئته، والسلام عليه وعناقه وإسداء التبريكات له على ما قام به. كان هذا المشهد أمام عيني، وأنا أشاهده وقد ربط الله على قلبي، فلم أصب بالغضب كعادتي عند حدوث أمر مماثل وهضم حقي. ولكن تأملت المشهد وأخذت أردد: “سبحان الله، لله في خلقه شؤون”. لعلها تكون فتنة واختبارًا لهذا الشخص بأن يقول كلمة حق في إعطاء ولو بعض الفضل لأصحابه الحقيقيين، وكنت أقف خلفه تمامًا، وهو يعلم بوجودي.

مرت علي مشاهد كثيرة مماثلة، وكنت في معظم الأحيان أقابلها بالغضب وأحيانًا أتجاهلها. وعندما تدبّرت المعنى الحقيقي للعمل في القرآن، وجدت آية عظيمة أصبحت أرددها بشكل دائم: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾. الزبد هو كل تطبيل وكل ادّعاء بالإنجاز بغير وجه حق، وهو حالة مؤقتة لا نفع منها. بينما ما فيه نفع وفائدة للناس يبقى ويظل أثره ونفعه مستمرًا. وهذا ما أرجوه لعملي.

وعليه، أصبحت أبحث عن هذه المعاني في القرآن الكريم، وتيقنت أن الله عز وجل دائمًا يشير إلى بقاء أجر العمل الصالح، وأنه سبحانه وتعالى لا يضيع أجر التعب: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾، ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾. يكفيني إخلاص النية لله عز وجل وتجديدها بشكل مستمر وقد ذكر الإمام الجنيد أنه "من فتح على نفسه باب نية صالحة فتح الله له سبعين بابًا من أبواب التوفيق". وهكذا أصبحت مع الوقت أكثر هدوءًا وأقل غضبًا مما كنت عليه.

ولكي أكون عادلة مع نفسي، أعلم أن عليَّ تعلم بعض مهارات التسويق الشخصي لمهاراتي وإنجازاتي. لا أعلم كيف سأصل لذلك، لأنه أمر لا يتوافق مع شخصيتي، ولكن من باب السعي لعدم الرضا ببخس حقي.

هذان الجداران من بين الجدران التي شكلت هذا الفصل. والمضحك أن كثيرًا من زملائي كانوا يصفونني بالعناد، ومع الوقت أصبحوا يذكرون لي مدى تغيري وتغير طريقتي مع استمرار محاولاتي في تحسين العمل والعطاء. صحيح أني في كثير من الأحيان أتمسك برأيي وأثبت على ما أراه من حق، ولكن إن كنت عنيدة كما يقولون، فالعنيد لا يتغير بسهولة ومن تلقاء نفسه كما لاحظوا. وكنت عندما أسمعهم يقولون ذلك، أرد عليهم بابتسامة فقط، فلا داعي للتفسير، فهم لم يرَوني إلا في هذه الفترة من حياتي، ولو عرفوني منذ زمن، لعرفوا أنني لم أكن يومًا على نفس الحال وأني دائمة التحسن، وكل ذلك بفضل الله وفتحه. كيف لا، وأنا أردد دومًا ما كان يذكره الحبيب صلى الله عليه وسلم: (اللهم أرني الحق حقًا وارزقني اتباعه). فعندما أتأمل في أمر ويتضح لي معنى جديد ويظهر لي حق جديد، فلماذا أعاند؟!

دمتم في سلام

تدوينات أُخرى في الرحلة

لنتواصل

يسعدني تواصلك على
basera.blog@gmail.com

وإن أردت أن تبقى على اطلاع بتدوينات رحلتي

يسرني اشتراكك في قائمتي البريدية

© 2025 مدوّنة بصيرة الذات | الموقع عمل محمّد الحكيــم

لنتواصل

يسعدني تواصلك على
basera.blog@gmail.com

وإن أردت أن تبقى على اطلاع بتدوينات رحلتي

يسرني اشتراكك في قائمتي البريدية

© 2025 مدوّنة بصيرة الذات | الموقع عمل محمّد الحكيــم

لنتواصل

يسعدني تواصلك على
basera.blog@gmail.com

وإن أردت أن تبقى على اطلاع بتدوينات رحلتي

يسرني اشتراكك في قائمتي البريدية

© 2025 مدوّنة بصيرة الذات | الموقع عمل محمّد الحكيــم