۱) كيف تعيد النظر في أولويات حياتك بشكل أسبوعي؟ – التعمق في قراءة سورة الكهف أسبوعيًا

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء الله له نورًا ما بين السموات والأرض).

تعملت من دروس العلم والذكر التي حضرتها سابقًا أن قراءة سورة الكهف بشكل أسبوعي ليس فقط للأجر، هي أيضًا مراجعة أسبوعية أو أشبه بما نسميه بمصطلحات العصر الحديث التأمل الذاتي Reflection. حيث أن هذه الممارسة يشجع عليها الكثيرون من الأخصائين النفسيين ومدربي الحياة، وأن تُمارس بشكل دوري، وهذه الممارسة أثبتت منافع كثيرة للشخص المداوم عليها.

فسبحان الله الذي جعل سورة الكهف والحث على مداومة قراءتها بشكل أسبوعي، هو تطبيق عملي للمراجعة الدورية والتأمل الذاتي Reflection في مواضيع الفتن الأربعة. فسورة الكهف تناقش أربع فتن دنيوية يتعرض لها الإنسان بشكل يومي في حياته وهي:
١) فتنة الدين
‏٢) فتنة المال
‏٣) فتنة العلم
‏٤) فتنة القوة والسلطة

فتنة الدين

فتنة الدين متمثلة في أولى قصص سورة الكهف والتي سُميت باسمها وهي قصة أصحاب الكهف. وهي أيضًا قصة معروفة اختصارها أن مجموعة من الفتية -الشباب- آمنوا بالله عز وجل وآُذوا في إيمانهم من قبل الملك الذي أمرهم بالعودة لعبادة آلهته ففروا بدينهم واحتموا في كهف. ومما ذُكر أيضًا أنهم كانوا من علية القوم.

‏السورة بدأت بفتنة الدين دلالة على أنها من أعظم ما يُفتتن فيه الإنسان في حياته. كما أن أصحاب الكهف لم يكونوا كبار في السن ولم يكونوا من فئة بسيطة إنما شباب من علية القوم، بمعنى هم لديهم الوقت والصحة والمال والعلم ومع ذلك كان الدين مقدم على كل ذلك. فعند قراءة هذه القصة بشكل أسبوعي نحتاج وقفة لنتفكر في حال ديننا. هل قدمت الدراسة والعمل أو عائلتي وأبنائي عليها؟! هل قدمت أعذار مختلفة في كل مرة، مرة بأني مازلت شاب ومرة التحجج بضيق الوقت ومرة ومرة ….؟! هذه القصة تذكرنا بمراجعة حال ديننا وعلاقتنا بالله عز وجل.

في كل فتنة توجد وصفة وقائية لها مذكورة في الآيات. في قصة أصحاب الكهف وفتنة الدين:

‏أولًا: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله)
‏اعتزال ما يفتنك في دينك:
(بل الإنسان على نفسه بصيرة*ولو ألقى معاذيره) فتش ما الذي يفتنك في دينك في شتى مجالات حياتك وحاول اعتزاله.

ثانيًا: (فأووا إلى الكهف)
أووي إلى كهفك:
‏ليس بشرط أن يكون كهف مادي، هو كهف معنوي. ‏اختلي بنفسك، فكّر وتدبر، اتصل بروحك، تكلم مع الله، ابحث في المعاني التي لم يرتاح لها قلبك بعد. وحتى أنه توجد سنة مشابهه ومأجورن عليها وهي الاعتكاف. ‏وسبحان الله الذي أوجد لنا أيام وشهور فضيلة لتكون لنا مساحة للاختلاء بأنفسنا والدخول في كهف النفس في ظل انشغالنا وانغماسنا في الحياة.

ثالثًا: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازداد تسعًا)
دلالة على أن المدة قد تطول:
‏لا تيأس ولا تستسلم للفتن وجاهد في دينك.

رابعًا: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا)
‏الصحبة..الصحبة..الصحبة:
رابع وصفة وقائية كانت وصية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في ختام القصة وصاه فيها بالصحبة. ابحث عن الصحبة المشابهة التي تُعينك وابتعد عمن قد يفتنك. وذكرتني هذه الآية بمفهوم مجموعات الدعم Support Group، وينصح أيضًا بها كخطوة للتحسن في جانب معين تواجه فيه بعض الصعوبات. وميزتها أن جميع من في المجموعة مشتركون في نفس الموضوع، فالجميع يفهم بعضهم البعض. وهذا هو ما تدعو له الآية الكريمة، أن يكون لك مجموعة داعمة ومماثلة تفهمك وتُعينك.

أيضًا من اللفتات الجميلة التي قرأتها مؤخرًا هي المفارقة بين الصحبة الصالحة وصاحب السوء. حين قال الله عز وجل (مع الذين يدعون ربهم) فهذه لفتة إلى أنك تحتاج أن تكون مع مجموعة من الأشخاص ليقدموا لك الدعم ويأخذوا بيدك للخير والصلاح. بينما في حال صاحب السوء، قال الله عز وجل (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه) فيكفي شخص واحد فقط لجرك للغفلة والفساد أو الإلتهاء عن الأمور الدينية والدنيوية النافعة.

فتنة المال

الفتنة الثانية متمثلة في قصة صاحب الجنتين. والقصة تبين الغرور المصاحب لحيازة المال (والممتلكات) خصوصًا إن كان حصول الشخص على ما يملك بجهده بعد توفيق الله عز وجل.

‏والخوف من فتنة المال يكمن في الغرور والإعجاب بالنفس وتصور امتلاك القدرة في استمرار امتلاك المال (قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا).

الوصفة الوقائية لفتنة المال:

أولًا: (أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلًا)
‏تذكر أصل خلقتك:
تذكر أنك من تراب وأنه لا حول لك ولا قوة.

ثانيًا: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت مشاء الله لا قوة إلا بالله)
‏إرجاع الفضل لله دائمًا وأبدًا:
كن ممتن لله عز وجل على ما أوتيت من نعم وفضل.

لفتة مهمة: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه)

‏الغرور والتكبر والإعجاب بالنفس هو ظلم للنفس. والظلم من أبشع الأمور في الحياة. والدلالة أن الله عز وجل حرم على نفسه الظلم رغم هو سبحانه فوق كل شئ لكنه مع ذلك لا يرضى بالظلم لدرجة أن قرر أن يكتب على نفسه تحريم هذا الفعل. وهو أيضًا سبحانه جعل دعوة المظلومين مستجابة. كل هذه دلالات على أن الظلم ليس بأمر هين.

ولأن الكبر هو ظلم للنفس فهذا يفسر الحديث (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)  وقد وضحنا عظيم أمر الظلم. وفتنة المال (والممتلكات) قد تُوقع الإنسان في هذا الأمر – الكبر والغرور والذي هو ظلم للنفس- وقد تكون سبب في خسارة المرء للجنة لأمر دنيوي هين. لذلك كانت فتنة المال ثاني أعظم الفتن بعد فتنة الدين.

وفي ختام قصة صاحب الجنتين يذكرنا الله بأصل الحياة الدنيا:
‏١- المال والبنون هم (زينة) بمعنى الكماليات ولتتزين بها الحياة وهي غير دائمة -بدلالة ذكر الباقيات بعده-.

٢- والباقي من الحياة وما ستخرج به هو (ذكر الله) وذكر الله ليس محدود بالأذكار. فكل عمل وكل قول وكل نية وكل حركة للحياة ومقصود به وجه الله هو ذكر لله عز وجل وهو ما سيبقى لك من هذه الحياة.

‏فتنة العلم

فتنة العلم متمثلة في القصة الشهيرة لموسى مع الخضر عليهم السلام. وباختصار، بدأت القصة بعد أن سأل أحد الرجال موسى عليه السلام إن كان هناك من هو أكثر منه علمًا؟ وأجاب موسى بالنفي الجازم بأنه لا يوجد من هو أكثر علمًا منه من غير إرجاع أصل العلم كله لله. فبدأت رحلة موسى في البحث عن الخضر عليهم السلام بعد أن ذكر الله عز وجل له بأن الخضر أعلم منه.

‏وبعد أن عثر سيدنا موسى على سيدنا الخضر وأراد مصاحبته في رحلته، ذكر الخضر لموسى- وقد ألهم الله الخضر الحكمة- (أنك لن تستطيع معي صبرًا) وزاد (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا). هذه الآية التي ذُكرت على لسان الخضر هي آية من آيات تشخيص قدرات الإنسان الفطرية وهي: عدم قدرة الإنسان على الصبر في حال الغموض وعدم العلم والإدراك الكامل وغياب المعنى والحكمة عن ذهن ووعي هذا الإنسان.

تذكرت المرحلة السابقة في بدايات انتشار فيروس كورونا المستجد والغموض الكبير المصاحب لتلك الفترة. فقد كنت أُذكّر نفسي ومن حولي دائمًا أنه من الطبيعي التساؤل وعدم القدرة على الصبر وذلك ببساطة لأني إنسان، وربنا ذكر عن الإنسان- بل عن واحد من أولي العزم من الرسل- (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا).

في كل قصة حدثت مع الخضر، كان لدى موسى عليه السلام تعليق واستغراب واستنكار وكان يحاور الخضر عليه السلام ويكثر التساؤل. ‏كل ما كان يحتاجه موسى عليه السلام ليتعلم أكثر وتنكشف له الحكم المخفية للأمور الغريبة والكارثية التي حدثت هو (الصبر).

الصبر هو الوصفة العلاجية لفتنة العلم:

‏إن كنت قليل علم أو كثير علم، تحتاج للصبر حتى تكون أكثر فهم وعلم. تحتاج عدم التسرع في إطلاق الأحكام والدخول في جدال ظنًا منك بأنه لديك المعرفة والعلم الكامل.

‏الشخص الذي يقع في فتنة العلم هو شخص لديه مظنة القدرة على تحليل كل شئ وفهم كل شئ. ومغزى فتنة العلم في سورة الكهف هو تذكيرنا أنه ليس شرطًا أن نكون دائمًا على عمل ومحيطين بكل شئ. لأنه بالتأكيد ستكون هناك معاني عميقة أنت جاهل بها حاليًا ولست على علم ودراية بها. وأحيانًا لا يلزمك حتى أن تكون مُدرك كل شئ.

من الأمور التي لفتتني في قصص فتنة العلم وأتسائل عنها هي: هل أصحاب القصص علموا بالحكم والأسباب؟ هل وصلتلهم معاني الأحداث التي حصلت؟!! الخضر ذكر المعاني لموسى عليهم السلام ولكن لم يذكرها لأصحاب القصص. فمن الممكن أنهم علِموا ومن الممكن أنهم لم يعلموا، لم يذكر القرآن أي دلالة على ذلك.

‏وهذا ما يجب أن نذكر به أنفسنا بشكل أسبوعي عند قراءة سورة الكهف والمرور بهذه القصة. أن أصبر، حتى وإن لم أكن أعلم، ولا أنتظر أن أعلم أو أنتظر من الله عز وجل أن يُريني حِكم قضاءه وقدره.

وبالنسبة لي شخصيًا الخضر عليه السلام هو معنى متجسد لقضاء الله وقدره. فكما كلم الله عز وجل موسى عليه السلام. هو رأى أيضًا تجسيد لقضاء الله وقدره في تدبير الأمور. وكنت قد سمعت سابقًا من قال: ماذا لو كان موسى عليه السلام أكثر صبرًا؟! كنا تعلمنا أكثر عن حِكم الله عز وجل وتدبيره لشؤون الخلق سبحانه.

كما أن الصبر على العلم ليس محصورًا على (الصبر على العلم بأسباب وحِكم القضاء والقدر). الصبر على العلم يشمل أيضًا (الصبر على التعلم) سواء تعلم علوم دينية أو دنيوية. وقد قال الله عز وجل (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، الواصل درجة العالم هو شخص صبر كثير على تلقى العلم وتعلم العلوم.

‏فتنة القوة والسلطة

الفتنة الرابعة والأخيرة في سورة الكهف متمثلة في قصة ذو القرنين، وهو أحد الأشخاص الأربعة الذين ملكوا الأرض، وكان ملك صالح.

‏قال الله عز وجل عن ذي القرنين (إنا مكنّا له في الأرض واتيناه من كل شئ سببًا). ومع ذلك كان صالح. وصلاحه كصاحب سلطة وقوة كانت تكمن في ثلاث صفات:

أولًا: (قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابًا نكرًا * وأما من آمن وعمل صالحًا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرًا)
العدل في التعامل:
وبلغة العصر الحديث اسميها الحزم Assertiveness، أي أن تكون واضح مع الموقف الذي حدث، وأن تتصرف بكل عدل من غير الأخذ بالمحسوبيات.

وعندما قيل لذي القرنين (ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنًا). لم يسأل عن أصل القوم أو مكانتهم أو منصبهم أو مالهم وممتلكاتهم. بل كان أساس التعامل مع كائن من كان هو عمله، من ظلم له جزاءه، ومن عمل صالح له جزاءه.

ثانيًا: (قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة)
طلب العون:
رغم أنه ملك الأرض والله عز وجل مده بالقوة والقدرات الخارقة ومع ذلك طلب العون. لم يستغني عمن حوله ولم يستحقرهم. فكلًا له قدراته وخبراته في مجاله والتي لو اجتمعت مع ما لديك أضافت وحققت الكثير.

‏ثالثًا: (قال هذا رحمة من ربي)
‏إرجاع أصل العمل لله:
‏كل ما لديك هو بفضل ورحمة الله عز وجل، مهما امتلكت من قوة وسلطة وقدرات. وتذكر (ومارميت إذ رميت ولكن الله رمى). وقد أنزل الله عز وجل هذه الآية في غزوة بدر، عندما ألهم الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ قبضة من تراب الأرض وينثرها في وجه العدو حتى أصابت أبصارهم جميعًا. فذكّر الله عز وجل رسوله الكريم أن ما أصاب العدو ليس بسبب رميك أنت للتراب، ولكن الله هو من رمى في وجوههم العمى، وما فعلت أنت إلا أنك أخذت بالأسباب.

في الختام، ليس سهلًا أن نعيش في هذه الحياة، فهي محفوفة بالفتن. ولكن الله أعطانا المنهاج كما ذكر في بداية السورة (الحمدلله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا * قيما لينذر بأسًا شديدًا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا) فقط عد لهذا المنهاج.

دمتم في سلام

التعليقات

شاركني رأيك

لن يتم نشر بريدك الالكتروني
لن يتم نشر بريدك الالكتروني

تدوينات أخرى

استمع للتدوينة