قشة رغم خفتها ومعدومية وزنها إلا أنها قد تكون ثقيلة كالجبال إن هي أُضيفت على كمٍ هائلٍ من الأوزان.
لم تكن القشة هي التي قصمت ظهر البعير ولكن التراكم هو ما قصم الظهر. ليس آخر حدثٍ هو ما تسبب في انهيارك أو انفجارك، إنما التراكم.
تتراكم الأحداث والمواقف في حياتنا والتي نظن ابتداءً أنها ستمر وأننا سنتجاوز بالتطنيش ونضحك على أنفسنا بأننا سننسى. وتمر الأيام ونحن ندّعي النسيان ونتناسى، لكن ما يحدث هو أننا في الأغلب نمتلى كالبالون الذي له قدرة معينة على التمدد والامتلاء بالهواء وعند تجاوز قدرته على التمدد ما يلبث حتى ينفجر .
التحمل من القدرات والمهارات المهمة في الحياة والتي يحتاجها الإنسان لمواجهة الصعوبات والتقلبات. والقدرة على التحمل تختلف من شخص لآخر. التحمل لا يعني الصبر، ولا يعني تهميش النفس والآراء الخاصة من باب (لازم نتحمل) وهذه نقطة جوهرية في مفهوم التحمل. كما ليس من التحمل أن تصمت إلى الأبد، لأني أؤمن إيمان شديد بأنه لديك حلين فقط لا ثالث لهما في حال مرورك بظرف مزعج، مقلق، محزن أو غيره. وهذان الحلان هما: إما أن تتواصل بالتحدث والمواجهة مع الأطراف المعنية، أو أن تنسى للأبد وكأن شيئًا لم يحدث إطلاقًا غير أن مرور هذا الحدث قد علمك درسًا. لكن ما يحدث في الأغلب يا عزيزي أننا نختار شيئًا في الوسط ونظل ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ﴾ لا نتكلم ونواجه، ولا ننسى!! وتبدأ التراكمات.
فكر معي! لو كان لديك رف معلق على جدار ، وتثقل عليه في الحمل. تضع الكتب الثقيلة، المزهريات المليئة بالورود، إطارات الصور الكبيرة، شموع عملاقة وغيرها مما تظن أن هذا الرف المسكين قادر على تحمله وأنه صُنع لهذا الغرض. ومرة أخرى كالبالون، ما يلبث حتى ينهار الرف ويسقط. كذلك هي النفس تضيف عليها مما يثقل عليها وكل مرة تضيف وتضيف وتضيف و…و…حتى تتجاوز الحد الممكن للتحمل.
من الطبيعي جدًا أن تواجه الكثير من الأحداث في حياتك، منها ما هو مربك، أو مفاجئ، أو محزن، أو مزعج، أو مؤلم، أو غير متوقع. ومن الطبيعي جدًا وجدًا أن تأخذ وقتك في استيعاب ما حدث والتفكير فيه بشكل حيادي على قدر الإمكان. وقد تختلف المدة التي تحتاجها مع نفسك، ومن حقك أن تأخذ كل الوقت الذي تحتاجه. لكن حذارى أن تترك الموضوع للزمن. الزمن سيخدعك ويُدخلك في المنطقة الرمادية التي ذكرتها سابقًا، لا أنت اتخذت موقف ولا أنت نسيت الموضوع تمامًا. سيظل الموضوع معلق وستظل المشاعر مكبوتة حتى تأتي الطامة الكبرى وهي القشة التي ستقصم ظهر البعير. موقف أو حتى كلمة قد تجعلك تنهار أو تنفجر. وفي كثير من الأوقات يخرج منك ما ليس أنت، ويتوجب علي أن أحذرك من أنه قد يخرج أسوأ ما فيك.
مرة أخرى، لا بأس من التنفيس والتعبير عما في داخلك. لكن انتبه معي فيما حدث هنا، أولًا: أنت تركت مشاعرك زمنًا، وتركته ينطبخ مع أحداث أخرى. ثانيًا: قد تُفرغ ما في داخلك في الوقت الغير مناسب و/أو مع الشخص الغير مناسب.
وأحيانًا يلجأ الإنسان للكبت الداخلي مراهنًا أن الزمن سيُعافى كل ما بداخله. ولكن ما سيحدث هو عكس ذلك. حيث أن هذا الكبت سينهش في جسده داخليًا، ويبدأ هذا الجسد الضعيف بالمقاونة بكل ما أُوتي من قدرة حتى يسقط مستسلمًا، فيظهر الكبت منتصرًا مفجرًا أمراضًا وعللًا جسدية.
مررت مراتٍ كثيرة بكل ما سبق. في حياتي الشخصية والمهنية، انفجرتُ مراتٍ على أشخاص، وانفجر مراتٍ أشخاصٌ علي. عانيت من أمراض وأعراض جسدية سببها نفسي. ولم تكن دومًا العواقب حميدة. فكيف نعالج هذه العادة؟! هي فعلًا عادة، والعادة تتكون من تكرار سلوك معين، وهذا السلوك هو نتاج شعورٍ معين، والذي نتج عن فكرةٍ معينة مرت بذهنك.
لذلك وكما ينصح المختصين النفسيين دومًا، بأن تنتبه وتراقب أفكارك. شكك في أفكارك وأسأل نفسك لماذا تفكر بهذا التفكير؟! لماذا عليك أن تتحمل؟! ما الذي يمنعك من التحدث؟!
ومن أهم خطوات التخلص من عادة التراكم هو التفريغ. قد تبقى شوائب وهذا يعتمد على شكل التفريغ. ولكن مع الممارسة ومراجعة النفس، ستتعلم بأن لا تترك شوائب قد تُنغص عليك حياتك لاحقًا.
اسمح لنفسك بالانهيار أو الانفجار. لكن تخير الوقت وفريق الدعم. وحذارى أن تَصُبّها في أحد قد تخسره للأبد أو أن تكبته داخلك حتى يتحول لوحش يلتهم جسدك. التحدي هو في الكيفية والتوقيت والمعية. كيف أُفرغ ما بداخلي، متى، ومع من؟! لا تنهار ولا تنفجر في أحد، بل مع أحد يستطيع تقديم الدعم اللازم حتى ترتاح. شخص يسمعك، يتفهمك، يحضنك، يلتمس لك العذر.
إن اخترت التحدث والمواجهة المباشرة مع الأطراف الأخرى، تأكد أنك غير مشحون مشاعريًا، وأن تكون هادىء ومستعد للمناقشة ولسماع ما قد لا يسرك. لا تريد أن تخسر مرتين، مرة عند مرور الموقف ومرة أخرى عند المواجهة. لا تسمح لأحد من أن يمنعك من المواجهة أو تأجيل المناقشة مرارًا وتكرارًا. إن كان الطرف الآخر قد تجاوز الأمر فأنت لم ولن تتجاوزه إلا بالمناقشة والمواجهة، فمارس حقك.
قف بعدها من جديد. استمر في الحياة فستدور الدائرة على الأغلب ولكن سنستمر في الحياة. وفي كل مرة سنتعلم كيف نتعامل مع المواقف والأشخاص، لأنه من الحماقة أن نراكم داخلنا ونتحمل ونتعب في كل مرة لنفس السبب. وتذكر قوله تعالى ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ فارحم ضعف نفسك البشرية.
دمتم في سلام