۸) ﴿وَاصْبرْ نَفْسكَ (مَعَ)﴾ – عن المعية والمحيط الداعم

هناك أعراض ومسببات تقريبًا لكل مرضٍ عضوي يُصاب به الإنسان، وكذلك الأمراض النفسية. وكما أنه من المؤكد أن كل إنسان على وجه الأرض أُصيب على الأقل مرة واحدة بالانفلونزا بسبب الفيروسات المنتشرة حولنا. مرة أخرى، كذلك الأمراض النفسية، من المؤكد أن كل فرد أُصيب بأبسطها على الأقل. فبما أننا نعيش جميعًا على هذا الكوكب وفي هذا العصر المتسارع في أيامه وأحداثه وتطوراته، فنحن حتمًا عانينا وسنعاني من العلل النفسية، ولا بأس بذلك. فأنت عندما تُصاب بفيروسٍ ما، يقوم جسمك بتكوين مناعة لهذا الفيروس، بالتالي عندما يصيبك مرة أخرى لن يؤثر عليك مثل المرة الأولى. ومرة ثالثة، كذلك هي الأمراض النفسية، على اختلافٍ واحدٍ بسيط، إن قررت أنت أن تكوّن المناعة النفسية. فنفسيتك ليست كالجسد الذي لديه كريات الدم البيضاء لتكوين المناعة. في حالات التعب والإعياء النفسي، تحتاج أن تكوّن أنت كريات الدم البيضاء أو سأسميها نظام الحماية النفسية.

فكيف يمكننا أن نكوّن نظام الحماية التي تكوّن لدينا المناعة النفسية في حال هاجمنا نفس مسببات الإعياء النفسي مرة أخرى؟!

ثلاث خطوات:

الخطوة الأولى: الوعي. وهو أن تشعر بالأعراض ووجود خطبًا ما. وتحدثت عن بناء الوعي الذاتي في تدوينة تحليل شفرة الوعي الذاتي.

الخطوة الثانية: التعامل مع الحالة لتستطيع الشفاء مما أصابك وتبني مناعة نفسية لأي إصابة مستقبلية. وأيضًا تحدثت عن هذه الخطوة في تدوينة مشاعر لم تُسمى بعد.

الخطوة الثالثة: تكوين محيط داعم. والذي سأتناوله في هذه التدوينة.

نحتاج في هذه الحياة للدعم الدائم وفي شتى الجوانب. هذا الدعم هو جيشك الذي يخوض معك معركتك ضد الهجومات النفسية. وهو المصدر الذي يمدك بالأكسجين الذي تحتاجه عند تعرضك لأي أزمة نفسية.

قال تعالى ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ فمن فضل الله عز وجل أن سخر الناس للناس. والإنسان مهما كان قويًا وواثقًا ومنطلق في الحياة فهو يحتاج للدعم ليكمل المسيرة. وإلا لما أيد الله عز وجل اثنين من أولي العزم من الرسل بالدعم والمعية حين قال عن محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ وقال عن موسى حين طلب معية أخيه هارون عليهم السلام: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾.

أحيانًا تمر الأيام ثقيلة نواجه فيها ضغوطات في العمل، بعض الصعوبات مع الأهل والمعارف، عقبات في التربية، فتن في الدين، عوائق صحية، تحديات التعلم، وغيرها من معضلات الحياة.

وإن كنا سنواجه مثل هذه الأمور في حياتنا وبشكل متكرر وهذا شئ طبيعي، فبالتأكيد سنعاني ونُرهَق نفسيًا وجسديًا. وحتى لا نستسلم مبكرًا فنعيش الحياة كما تأتي، علينا أن نستعين بالدعم.

المحيط الداعم ليس أمر افتراضي، بمعنى لا تتوقع أنه بمجرد ولادتك سيتم منحك اسم وهوية ومعه المحيط الداعم الذي تحتاجه في هذه الحياة. بل عليك أن تعمل جاهدًا على تكوين هذه الدائرة.

عندما يكون لديك وعي ومعرفة بنفسك كما ذكرنا في الخطوتين الأولى والثانية، ستستطيع وقتها أن تحدد وتختار من يكون ضمن دائرة الدعم. تخيّر من يشاركك عقلية مشابهة أو على الأقل من يستطيع أن ينصت لك ويتفهمك ويراعي ويتعاطف معك ويشاركك وجدانيًا.

بمن تستعين كمحيط داعم؟!

العائلة والأهل: من أكبر النعم أن يكون جزء من محيطك الداعم من عائلتك و/أو أقربائك. قد تجد فرد من أفراد عائلتك أو أحد أقربائك يشبهك ويفهمك فهذا مكسب عظيم. ولكن إن لم يكن هناك شخص كذلك فلا بأس، فنحن لم نختار أهالينا وأحيانًا نكون مختلفين فكريًا وسلوكيًا عنهم بالتالي يكون من الصعب أحيانًا أن نجد الدعم منهم.

الأصدقاء وشريك الحياة: هؤلاء هم الأنس في الحياة. هم على الأغلب يشبهوك كثيرًا ويفهموك، لأنك أنت من اخترتهم.

المختصين والمدربين: سواء من أخصائين نفسيين أو مدربي الحياة أو المهن life coach/career coach، وقد تستعين بأكثر من شخص حسب تخصصه ومجاله. هذه الفئة هامة لاختصاصهم، فهم يستطيعون أن يفسروا ويحللوا ما بك بناءً على العلوم والدراسات ويستطيعون أن يأخذوا بيدك لطريقٍ أفضل.

وبما أن الحياة مراحل وفترات، فما كان مناسبًا في مرحلة أو فترة معينة قد لا يعود مناسب في المراحل الأخرى. إضافةً إلى أن الإنسان يتغير مع الوقت والتجارب. لذلك قد تجد شخصًا من صديق أو قريب كان داعمًا في فترة ولكنه لم يعد كذلك الآن. حتى المختصين قد يكونون مناسبين لفترة معينة أو هدف معين. وبالنسبة للمختصين، قد لا ترتاح لمختص رغم كثرة المديح الذي سمعته عنه فالأرواح جنود مجندة كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف). فلكل هذه الأسباب، ليس من المتوقع أن يكون محيط الدعم الذي كونته في مرحلة عمرية معينة دائم لمدى العمر. قد تحتاج أن تكوّن صداقات جديدة أكثر عمقًا، قد تجد نفسك تتنقل من مختص لمختص، لكن من يحاول ويستمر بالبحث سيصل بالتأكيد.

أخيرًا، تخير الأناس الذين يكونون محيطك الداعم، فإن أحسنت اختيارهم فهم والله جيشك وسندك في مواجهة وتخطي تقلبات الحياة بأقل الأضرار النفسية.

دمتم في سلام

التعليقات

شاركني رأيك

لن يتم نشر بريدك الالكتروني
لن يتم نشر بريدك الالكتروني

تدوينات أخرى

استمع للتدوينة