في تدوينة استراحة محارب أم انتكاسة شغوف والتي تحدثت فيها عن تجربتي مع الاحتراق الوظيفي وأخذي لإجازة طويلة وعاجلة من عملي وصلني تعليق من إحدى القارئات سأقتبسه هنا: (مقلق أنه يمكن استبدالك في عملك بعد أقل من أسبوع.. تلك الخواطر كفيلة أن تجعلك لا تشعر بالراحة أبدًا) ومع أني قمت بالرد على التعليق ولكن أحببت كتابة تدوينة خاصة لاسيما بعد أن قرأت كتاب (٤٨ قانون للسلطة) وكان القانون الحادي عشر يحث على أن تكون شخص يصعب استبداله والذي ذكرني بهذا التعليق.
العيش على مبدأ أن تكون شخص لا يمكن الاستغناء عنه هو تفكير إبليسي والذي يتمثل حول أن يكون لك وحدك الحظوة. وهو أسهل طريق للوصول للنرجسية، لأن هذا المفهوم يُدخل الإنسان في دائرة الكبر والإعجاب بالنفس والذي هو أساس الفكر الإبليسي ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ﴾. وهذا على المدى البعيد لا يُكسب الإنسان إلا مشاعر الحسرة والاجترار وجلد الذات تجاه النفس في حال التقصير، والقهر والحسد والغيرة تجاه الأخرين في حال تميزهم، بالإضافة للقلق وعدم الراحة، لأنك لن تصل أبدًا لأن تكون لك كل الحظوة دائمًا أو تكون أفضل البشر وأحسنهم، ولأنه هل يعقل أن الله الذي من أسمائه الحسنى (الواسع) أن يضيق الكون الرحب عليك أنت فقط وعلى وجودك! لذلك فإن العيش على هذا المبدأ مخالف للفطرة و كل ما يخالف الفطرة تنطبق عليه الآية الكريمة ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ فأنت تعرض عن تذكر أن الله الواسع، الباقي، المغني، وغيرها من أسمائه وصفاته الحسنى التي تحمل معاني الاكتفاء بالله وليس بالبشر سواء نفسك أو الأخرين. وأيضًا من أسمائه سبحانه وتعالى: الرزاق، الوهاب، الفتاح، القابض، الباسط، المعز، المذل، الخافض، الرافع، النافع، الضار، المانع، والتي تحمل معاني العطاء والمنع. فهو سبحانه من يرزقك القدرة على أن تكون شخص منجز ومتحدث وذو مكانة وهيبة وذو سلطة وغيرها من المعاني أن تجعلك شخص مرغوب فيه، وهو وحده القادر على منعك منها في أي وقت وتذكر قوله سبحانه وتعالى ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
بالتالي لن ترتاح إذا تبنيت هذا القانون. وأخشى أن من يحاول تطبيق هذا القانون أن يعيش في تعاسة شديدة، لأنه ببساطة لا باقي إلا الله، وستكتشف لاحقًا، وأنت وحظك إما بالطريقة السهلة أو بالطريقة الصعبة، أن الحياة لا تتوقف على وجودك بتاتًا البتة. فتبني هذا المفهوم سيجعلك تعيش في وهم مؤقت، وستصدم عندما يتخلى عنك أشخاص أو تفقد عمل أو مكانة، وتستيقظ على إحباط وخيبة أمل على أقل تقدير، إن لم يكن استيقاظك على حالة من الاكتئاب واليأس.
ولأني أؤمن أن تغيير المفاهيم والعادات تكون باستبدالها بأخرى أصح وأدق وأفضل. فعندما تلغي هذا الفكر استبدله بمعاني الخضوع والتسليم لله والخروج من وهم حولك وقوتك إلى كمال حول الله وقوته، وأنه لا فاعل في الكون إلا الله. وتذكر أن الإسلام لم ينتهي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. لأن أساس الإسلام هي الفكرة، فكرة أن لا إله إلا الله، وليس أساس الإسلام شخص أو أشخاص بمجرد ذهابهم اختفى الإسلام. وعندما تتبنى الفكرة المقلوبة لهذا القانون، وأنه يمكن الاستغناء عنك وعن الأخرين، ستتصالح مع فكرة الفراق بوجه عام والموت على وجه خاص، سواء موتك أو موت شخص آخر في حياتك. لأنه لن تتوقف الحياة على أحد أيًا كان هذا الشخص. ولن تكون الحياة بشعة بعد أي أحد. ستظل جميلة بشكلٍ ما، قد تكون جميلة بشكلٍ آخر بوجود بعض الأشخاص ولكن عدم وجودهم ليس من المفترض أن يوثر على حركة الحياة إطلاقًا.
شخصيًا لا أعيش على مبدأ أن أكون فرد يُصعب استبداله لأننا جميعًا راحلون يومًا ما بسبب أو بآخر. ولكن أعمل جاهدة أن يُشكل وجودي فرق إيجابي ويترك أثر كبير على من حولي في العائلة والأصدقاء والمجتمع، وأدعو الله أن لا يترك عملي غير مكتمل بعد رحيلي وأن يخلفني من يكمل الرسالة من بعدي. وفي مجال العمل على سبيل المثال، أحرص دائمًا أن لا يتوقف العمل عليّ أو حتى على أي فرد في الفريق لأن الأعمال والمهام قائمة على الأهداف والرؤية الأساسية التي نريد تحقيقها وليست قائمة على الأفراد وبمجرد ذهاب هؤلاء الأفراد تنهار المنظمة أو يُصعب المضي قدمًا. بل أؤمن أن على من يأتي بعد ذلك أن يُكمل المسيرة نحو الهدف والرؤية لا أن يبدأ من الصفر. وحتى أذكر عندما أخذت الإجازة المطولة من عملي وبعد عودتي للعمل سألت الفريق عما إن كان العمل تأثر أو أنهم أحسوا بصعوبات بسبب رحيلي السريع وكانت إجابتهم: (لا، لم يتأثر شئ برحيلك ولكن وجودك سيحدث فرق ونريدك أن تعودي) وهذا هو هدفي في أي عمل أن يكون لوجودي فرق في الإلهام والإنجاز ولكن ألا يُحدث رحيلي أي كوارث أو صعوبات، وبالعكس دائمًا أسعد جدًا عندما أسمع بإنجازات الفريق الذي كنت أعمل معه سابقًا.
وعودة لتعليق القارئة الكريمة (تلك الخواطر كفيلة تجعلك لا تشعر بالراحة أبدًا) العكس صحيح يا عزيزتي، لن يشعر بالراحة أبدًا من يظن أنه من الصعب استبداله، بل راحة البال دوما في الرضا والتسليم لله ولأقداره.
فلا تركز على فكرة استبدالك واجعل وجودك يشكل فارق طالما أنت موجود وأترك أثر طيب حتى لو لم تدرك أنت والأخرين هذا الأثر فقد تكفل الله عز وجل بها فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾، ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾، ﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾. وإن استخدمك الله في فترة من الحياة وجعلك ذو تأثير ومن ثم حجب عنك ذلك، فكن ممتن لله على ما مضى من الفتح والنعم، واحتسب الأجر والعوض فيما بقى، والحياة ولادة دومًا بالتعويضات.
مقال جميل، وكما أنّ فكرة أن تكون شخص لايمكن استيداله ربما تكون مقلقه وخاطئة فشعور أنك شخص يمكن استبداله بسهولة تعني أنك في بيئة لاتعرف قيمتك وأنك في المكان الخاطيئ ومع الوقت ستشك في قدراتك وتفقد تقديرك لذاتك..!