في هذه التدوينة سأتحدث عن إحدى أعراض المثالية، هذا العبء النفسي الذي كنت ومازلت أتصف به، وفي الحقيقة لا أريد التخلي عنه، إنما تعلم توظيفه في المكان والوقت المناسبين.
عندما تكون مصاب بالمثالية، فأنت تريد أن يكون كل شئٍ في حياتك على أكمل وجه وفي أحسن حال. وإن لم يكن، فأنت تحاول بذل كل الجهد المطلوب للوصول للأفضل. أعود وأُكرر أن هذه صفة حميدة إن تم توظيفها بالشكل الصحيح وليس تعميم تطبيقها على جميع تفاصيل الحياة. لأن من نتائج الحرص على الكمال هو أن تترك الشئ إن لم يكن ١٠٠٪، أي على قول الفنانة التونسية لطيفة (يا أبيض، يا أسود، لكن مش رمادي)- من أغاني التسعينيات الجميلة.
مفهوم (أبيض أو أسود) أو (الكل أو لا شئ) هي إحدى أعراض المثالية وهي أيضًا إحدى التشوهات المعرفية في علم النفس. وسُميت بالتشوهات المعرفية لأنها بالفعل تُحدث تشوهًا في التفكير. وبالطبع أنت لا تدرك ذلك، بل على العكس أنت ترى أنه تفكير منطقي. فمن المنطقي أن تتقن عملك سواءً في وظيفة أو في دراسة أو في المنزل، أو أيًا كان شكل هذا العمل. وعندما تنسحب من المضي قدمًا في المهمة، ينتابك شعور تأنيب الضمير ولكن عذرك الذي يشفي هذا الشعور هو أن هذا الانسحاب لمصلحتك، لأن جودة مخرجات أدائك الحالي لن يكون الأفضل.
عندما تقرأ هذه السطور، ستجد أنه من البديهي إدراك طريقة التفكير هذه وإدراك عدم جدواه. لكن يا عزيزي الأمور لا تُدرك بهذا الوضوح وبهذا الترتيب، لأن هذا نتاج تفكّر وتحليل واستنتاج والتحقق من صحة هذا الاستنتاج مع العلم والمختصين. ويا ليت لو أننا نستطيع رؤية الأمور بهذا الشكل. لكن الدماغ لديه قدرة عجيبة على الإقناع وإدلاء الحجج وتخيّل العواقب، ويُريك الأمور بصورة تقنعك بصوابها.
وسأوضح الأمر بمثال. في إحدى جلسات الكوتشينق المهني، كنت أُناقش التعب والإرهاق العملي مع الكوتش، فكنا نناقش الموضوع ونحلل الأسباب. حتى اتضح للكوتش أن مصدر هذا الإرهاق هو رغبتي في الكمال ولإيضاح الأمر رسم الكوتش على السبورة خط بدايته ٠٪ ونهايته ١٠٠٪ وباقي الأرقام فيما بينهما. وطلب مني أن أعطي تعريف للعمل المنجز بنسبة أقل من ٥٠٪ وهذا بالنسبة لي لم يكن مقبولًا أساسًا. والعمل المنجز بنسبة مثلًا ٧٠٪ وقلت وقتها عن هذا العمل: (اممم يعني…) ونبهني الكوتش ليس إلى ما كنت أقوله إنما كيف كنت أقوله، فقال لي (حتى ملامح وجهك تغيرت للاشمئزاز وواضح من ملامحك عدم تقبلك لهذه النسبة رغم أنها تُعتبر نسبة عالية). ونصحني بأن أتخلى عن المثالية وأتقبل ما هو أقل من ١٠٠٪.
المشكلة ليست في رغبتي في إتمام وإنجاز الأمور بنسبة ١٠٠٪. المشكلة هي في ترك القيام بالعمل أو التأخر فيه خوفًا من عدم الوصول إلى ١٠٠٪. وهذا ما بدأت أحاول التخلي عنه.
ومن الممارسات التي ساعدتني مؤخرًا في هذا الجانب هو أن أراقب انفعالاتي ومشاعري. ومتى ما بدأت أشعر بتوتر أو تعب أو غضب، أسأل نفسي: هل سبب هذا الانفعال داخلي أم خارجي؟ أي هل هو أمر تحت سيطرتي أم هو خارج عن سيطرتي؟
إن كان أمر خارج عن سيطرتي فإني في الغالب أحاول مرة أو اثنين وبعدها أردد من باب التذكير ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ وأظل أكررها.
وإن كان أمر من ضمن دائرة سيطرتي، فتعلمت أن أتوقف ما إن أشعر بالتعب وأحاول تقييم ما تم إنجازه وأتقبله. وإن كنت أخطأت في أمر، فقد أصبحت أتقبل نفسي عند الخطأ ولا أقف كثيرًا عند هذا الخطأ إن لم يكن أمرًا جلل.
قد تكون هذه الخطوات مكررة من قبل المختصين ودائم ذكرها. وأعلم أن الصعوبة تكمن في التطبيق الفعلي لهذا التنظير. وهنا يأتي دور اللاعب الأهم في التركيبة البشرية ألا وهو الأفكار.
أي أمر سيصبح سهل التطبيق إن أصبح جزء من تفكيرنا وقناعاتنا. وما أحاول تطبيقه واكتسابه هو أن أغير من قناعاتي من خلال عيش التجارب ومراقبة الذات وتحليل الأمور. ومن أكثر ما أذكر نفسي باستمرار هو:
⁃ أن أركز على الآن وأتمم ما أستطيع إتمامه الآن. وأنه دائمًا هناك مساحة للتغيير والتحسن مستقبلًا. ناهيك عن أن الآراء تختلف من شخص لآخر. وأنا نفسي سأتغير وأتطور مع الوقت.
⁃ أن أتذكر إنسانيتي ﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾. وواحدة من الطرق التي تعلمتها مؤخرًا رغم صعوبة تطبيقها هي أن أتقبل النتائج التي تكون أعلى من المنتصف ولكن ليست كاملة أي أتقبل إتمام ٧٠٪ بدلًا من ١٠٠٪.
أكتب هذه التدوينة وأنا في أمس الحاجة لتبني هذه القناعات. لكن من قال أن محاولات التغيير والتحسن تحصل دفعة واحدة كفصل في كتاب تقرأه مرة واحدة وتنتهي، إنما هي رحلة مستمرة ننجح في بعض المحاولات ونسقط في محاولات أخرى وتستمر الرحلة.
دمتم في سلام
[…] يا أبيض يا أسود لكن مش رمادي – وهم أن تكون ١٠٠٪ على ا… […]
ايه الحلاوة دي ... تبارك الله
[…] يا أبيض يا أسود لكن مش رمادي – وهم أن تكون ١٠٠٪ على الد… […]
أوافقك تماما فيما كتبتيه وأدعمك في الرأي ان مجرد الوعي بالمثالية وبما ممكن ان تسبب لك من فقدان فرص او تعب واجهاد بدني ونفسي وذهني ، مجرد الوعي والاعتراف بالمشكلة هي اولى خطوات الحل وانقاذ النفس منها .. لك كل الحب والدعوات بالتوفيق