في يوم الإثنين ٢٩ يوليو ٢٠١٩ وفي تمام الساعة ٦:٤٥ مساءً أرسلت رسالة (واتساب) لمديرتي قلت لها: (فعليًا أنا لا أستطيع أن أكمل العمل). أرسلت هذه الرسالة في اليوم التالي الذي تحدثت فيه معها ومع الرئيس التنفيذي للشركة بأنني أريد أخذ إجازة مطولة بلا راتب لأنني لم أعد أستطيع أن أكمل العمل وأنني على الأغلب (احترق وظيفيًا) واتفقنا حينها أن أكمل شهرًا واحدًا فقط قبل أن أذهب للإجازة المطولة ريثما يعودوا هم من إجازتهم السنوية والتي خططوا لها مسبقًا ولكنني لم أستطع أن أكمل اليوم التالي حتى.
لم يكن سهلًا علي الاعتراف، لأنه يعني بالنسبة لي أني استسلمت وضعفت وأخفقت وانتابني وقتها كثير من مشاعر الخذلان وتأنيب الضمير وتحمل مسؤولية (اللخبطة) التي أحدثتها بطلبي للرحيل المستعجل.
ومتأكدة أيضًا أن وقع هذا الخبر لم يكن سهلًا على الإدارة وخصوصًا أنها شركة صغيرة وعدد الموظفين محدود، ليس لهذا فقط وإنما لأنني رأيت في أعينهم كثير من التساؤلات عما إن كانوا هم السبب في شعوري بالاحتراق الوظيفي.
ببساطة لأحد يتحمل مسؤولية انتكاستي. هذا أولًا مشيئة الله، والحمدلله دائمًا على لطفه في أقداره. ثانيًا، مرور هذا الحدث كان حتمي ليعلمني الكثير من الدروس والمعاني عن الحياة المهنية. فبعد مروري بهذه الانتكاسة وعودتي للعمل ومرور عامين على هذه الحادثة، أصبحت أؤمن تمام الإيمان أننا مهما كنا شغوفين بالعمل، فهو يستنفذ طاقتنا بشكل كبير وعلينا أن نكون على وعي بذلك. فالإنسان لديه طاقة محدودة ووقت محدد خلال يومه وبالتالي خلال حياته. ومن المهم أن نعي أين وكيف نستهلك طاقتنا.
خلال إجازتي الطويلة، أخذت أفكر بشكلٍ عميق في أسباب إصابتي بهذه الانتكاسة رغم حبي للعمل والإنجاز. وبدأت بتفنيد أفكاري حول طريقة عملي والتي كنت اعتبرها من المسلمات، ولكن بما أنها تسببت في انتكاستي فهي قد تحمل بعض المعاني التي عليّ إعادة صياغتها.
وبما أن أفكاري قد تحمل بعض الجوانب الغير سليمة، تأملت في القرآن الذي هو دستور حياتنا وحتى أستطيع إيجاد النهج الرباني وأقوّم أفكاري. وتوصلت للتالي:
– ١ –
كنت أعيش الحلم الوردي بأنني وبالعمل مع فريق شغوف سنحدث التغيير وسنحسن من جودة الحياة، ولذلك علي دائمًا بذل المحاولة بشتى الطرق بلا كللٍ ولا مللٍ ولا يأس لتحقيق هذا الشغف.
ألهمتني هنا الآية الكريمة: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ (مَا اسْتَطَعْتُ) وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّه﴾. نعم، عليّ الاستمرار لمحاولة إحداث التغيير والتحسين، لكن على الإنسان أن يكون واعي بأن دوره محدود، وأثر عمله هو عملية تراكمية لعمل فرق ومنشآت وحتى دول، وقد يمتد الأمر لسنوات وأجيال حتى يظهر الأثر. فأنت وحدك لن تستطيع أن تحدث التغيير السحري واللحظي، ولكن تستطيع أن تؤدي المهمة الموكلة إليك ﴿مَا اسْتَطَعْتُ﴾ والتي بدورها تعتبر قطعة تساهم في إكمال الصورة.
– ٢ –
الجودة العالية هي نقطة مهمة وحساسة جدًا بالنسبة لي. بالتالي كنت أقوم بالتدقيق الشديد في كل شئ وكنت أقوم بمحاولة تحسين العمل من خلال إعادة العمل بنفسي أو تدريب الأخرين على تحسين جودة أدق المخرجات.
تنبهت من خلال الآية الكريمة: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ أن السيطرة الكاملة على طريقة تنفيذ العمل ومستوى المخرجات هي أسهل وأسرع طريق للتأخر في الإنجاز، بينما هناك أهداف أكبر يجب تحقيقها والتركيز عليها وهذه هي الغاية الأساسية من العمل.
– ٣ –
بطبيعة عملي في إدارة المنتجات الرقمية، يتطلب مني في كثير من الأوقات أن أقوم بسد الفجوات. فأحيانًا أقوم بمهام- مهما كان حجمها- فقط لأنه لا يوجد من يقوم بها ولأني أرى أنها ضرورية للمنتج.
أدركت من خلال الآية الكريمة: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ أنه لا يمكنني أن أكون كل شئٍ. ولذلك هناك وصف وظيفي والذي أعلم أننا في كثير من الأوقات لسنا مقيدين به، ولكن هو ليوضح لك بأنك لست سوبرمان لتقوم بكل شئ، إنما تم توظيفك في مكانٍ فيه موظفين أخرين ليقوموا سويًا بإنجاز المهام. وفي حال وجود تحديات في العمل تذكر النقطة الثانية فربما أنت تدقق كثيرًا في أبسط التفاصيل أو ربما تحتاج تطبيق النقطة الرابعة.
– ٤ –
لم أكن أعبر عن احتياجي وأطلب ما يساعدني على تنفيذ المهام، وكنت أؤمن أنه عليّ دومًا إيجاد طريقةٍ ما تساعدني على التنفيذ من غير زيادة التكاليف أو التسبب بإحراج أو تعطيل المهام.
استوقفتني هنا الآيتين الكريمتين: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾. كثير من الأحكام والإجراءات التي وضعها الله هي للتخفيف عن الإنسان، فلماذا أمتنع عن المطالبة ببعض المطالبات أو الإجراءات التي من شأنها أن تساعد في تسهيل وتيسير أدائي للمهام.
– ٥ –
كنت دائمة التواجد في العمل بالتفكير المستمر في الأهداف والمهام. فكنت فعليًا (أشيل هم الشغل) حتى لو أني لا أقوم بإنجاز المهام خارج ساعات العمل ولكن عقلي دائم التفكير في العمل دون توقف.
أنقذتني الآية الكريمة: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾، وآية ﴿للَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾. حتى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حمل أهم وأفضل مهمة، لم يطلب منه الله سبحانه وتعالى أن يعيش توصيل الرسالة بالهم والقلق والحزن. وأن إيقاف العقل عن التفكير في العمل أو إلهائه بجوانب أخرى في الحياة يساعد على العودة في اليوم التالي أو بعد إجازة نهاية الأسبوع بطاقةٍ أكبر.
التأملات والاستنتاجات الخمسة أعلاه، لا يعني أبدًا أن ننسى أننا خلفاء الله في الأرض ولكلٍ منا دور وشكل للاستخلاف. وأيضًا لا يعني بتاتًا السماح للنفس بالتقصير فيما اؤتمنت عليه. فمن المؤكد أنه علينا العمل بجدٍ وإحسان فقد قال الله عز وجل: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ وقال: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ وتذكر أيضًا:
﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّه﴾
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾
﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾
﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾
﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾
بعد إجازة بلا راتب امتدت لثلاثة أشهر، عدت للعمل وأنا أفضل من الناحية الجسدية والنفسية. وقد كونت لنفسي خلال هذه الفترة قناعة وفلسفة خاصة عن مفهوم العمل. وفعليًا الإجازة مهما كانت مدتها لها مفعول سحري على تحسين النفسية والعودة للعمل والإنتاج بشكلٍ أفضل.
فاللهم استخدمنا ولا تستبدلنا واستخلفنا فيما يرضيك وفيما ينفع الخلق والعباد.
دمتم في سلام
قراءات تنوء عن حس خلافة عالي ماشاء الله.
مازلت اكرر ان سمة الاحسان توأم اسماء ، حتى في تبسيط الحالة وفهم ابعادها والتعامل معها . بورك قلمك يا صديقتي بالتوفيق دائما.
بسم لله ما شاء الله.. جميل جداً جداً
شكراً جزيلاً
الله يوفقك يارب
جمييييييل جدا مشاء الله تبارك الله
دائماً القرآن دليل لحياتنا بكل تفاصيلها
شكراً للمشاركه الرائعة
جميل 🌺
رائع أسماء، دروس حقيقية.. في مقالتك هذه أشرتِ أيضاً إلى نقطة مهمة وهي التأمل.. بالفعل الشخص بحاجة من وقت لآخر إلى جلسة صفاء ذهني صادقة مع نفسه حتى يقوم بمساءلة افكاره وما يعتقد تجاه حياة العمل أو أي جانب في الحياة لا يسير على ما يرام.
توك عديتي الحريقة الأولى ؟ لسا ترا ذي المرحلة الأولى ...
خليك متحركة و متحصنة شكلك بارة والدين 🤫
انتبهي ع نفسك ... الله يحميك
تأملات رائعة وربط قرآني بديع ما شاء الله
ربي يبارك لك بوقتك وجهدك .. جميل التوازن
أولاً نرفع شعار: القراءة عبادة
ليست هواية أو عمل أو متعة أو وظيفة أو أو ...
ثانياً: قراءة القرآن أساس القراءة لأن كل حرف عليه أجر وهذا يدعوا إلى قراءة القرآن باستمرار دون توقف، وهل يتخلى مسلم عن الحسنات في حياته.
ثالثاً: قراءة الكتاب المتنوعة من سير ذاتية ومن أفكار جديدة تساعدنا على فتح منافذ ومسارات تنفعنا في العمل وفي تطوير أفكارنا.
رابعاً: التجربة التي مريتي بها كانت جداً مفيدة وأجد فيها تحفيز للرجوع للقرآن والبحث عن الأفكار التي تخرجنا من الظلام إلى النور.
رائع بمعنى الكلمه
تحليل وتفسير لموضوع الاحتراق الوظيفي بنور القران ونهجه ..
طرح جميل ومميز
بوركت