٤) تحليل شفرة الوعي الذاتي

قرأت مؤخرًا مقولة أعجبتني جدًا: (لاتدع جهل الناس بك يغلب علمك بنفسك). وتزامنت مع حدثٍ مررت به. الأشخاص والمواقف في هذا الحدث أثّروا بشكل كبير على ثقتي بنفسي حتى وصلت لدرجة الشك بنفسي. ولولا أن منّ الله عليّ بنفسٍ تتفكر وتتأمل ومنّ عليّ كذلك بمحيط داعم من الأصدقاء والمعارف، وإلا كنت أنقدت للشك وفقدت الثقة بنفسي، وهي أغلى ما يفقده المرء في رحلة الحياة المليئة بهضاب نصعدها ووديان نهبط فيها. لذلك تحمست لكتابة هذه التدوينة ومشاركة أفكاري وتجاربي ومحاولاتي في رحلة الوعي الذاتي.

الوعي هي أولى الخطوات لحل مشكلة ما. بالطبع لن تقوم بالتفكير في حلول لأمر لا تراه يشكل أي إشكالية. ولكن الوعي وحده لا يكفي. فماذا بعد الوعي؟

أولًا لنوضح (من أين يأتي الوعي؟):

الوعي الذاتي هو نتاج سنوات وسنوات من البحث والمحاولة والإخفاقات للوصول لأفضل نسخة منك. الوعي يأتي عندما تتعرف على ذاتك بكل مكوناتها: نفسك وجسدك وروحك وعقلك ومشاعرك. الوعي أن تراقب وتتأمل باستمرار كل ما يدور داخلك وتحاول تفكيكه وفهمه ومعرفة جذوره على قدر الإمكان.

الوعي الذاتي باختصار هو التركيز على النفس وتجريدها من كل ما هو خارجي من أشخاص وظروف ومسببات. قال تعالى ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚأَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾.

والوعي الذاتي والتركيز على الذات لا يأتي دفعة واحدة. في الغالب أنت تتدرج في الوعي من الخارج إلى الداخل. وحجر أساس الوعي هو التوقف والتأمل. بمعنى أنك كلما مررت بموقف تقف وتتأمل بالتفكير أو بالكتابة. أنت هكذا تستجمع كل ما يدور في عقلك وفي نفسك وفي مشاعرك تجاه هذا الموقف. وغالبًا في البداية تبدأ بتحليل العوامل الخارجية المؤثرة وتربطها بما حصل وأحيانًا كثيرة تكون هذه العوامل الخارجية هي شماعتك التي تحملها ردود أفعالك. لا بأس بهذا كبداية، على الأقل أنت تمارس عادة التفكر والتأمل.

ما بعد الوعي والتركيز على الذات: 

حتى تنتقل لمرحلة أعمق في الوعي الذاتي عليك أن تسأل نفسك سؤال واحد جوهري: هل هذا تحت سيطرتي؟ كل هذه العوامل الخارجية التي أثرت فيك هل هي تحت سيطرتك؟ هل لديك صلاحية في تغييرها؟ ومن واقع تجربة شخصية أغلب العوامل الخارجية ليست بيدك ولم تستطع يومًا أن تغيرها ولن تستطيع مهما فعلت، وتذكر الخلاصة التي ذكرها الله عز وجل في القرآن ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾. فأنقذ نفسك من هذه الحرب الفتاكة بأنك تستطيع إحداث أي تغيير فيمن حولك.

الخطوة التالية بعد أن تتيقن تمام اليقين أن العوامل الخارجية خارجة تمامًا عن سيطرتك. تبدأ بعدها بالتركيز على ما هو تحت سيطرتك، وهو (أنت) بوجودك الجسدي والنفسي والروحي والعقلي والمشاعري.

حاول أن تركز على التعرف على كل جانب على حدة، كأن تفهم كيف يعمل جسدك، ماذا يحب ومن ماذا يتحسس ومتى يتعب ويُجهد وماهي مسببات التعب الجسدي المختلفة التي تعاني منها، حاول تغيير سلوك واحد يؤثر على جسدك وراقب تأثيره عليك، كأن تبدأ بممارسة الرياضة لمدة ٢٠ دقيقة خمسة أيام في الأسبوع. أو أن تتأمل مالذي فعلته بشكل مغاير في يومك حتى أثر بشكل سلبي أو إيجابي على جسدك ونشاطه. هذه من الناحية الجسدية، ومن الناحية الروحانية مثلًا، حاول أن تُبقي روحك متصلة مع الله. الحوار المتواصل مع الله يزيد من شفافية روحك فتتجرد أمامك لحظات البعد والإلتهاء عن اتصال روحك بالله، وستبدأ بإدراك ما يعزل روحك فعلًا عنه. والقراءة أو الاستماع للعلوم الإنسانية المختلفة يساعد بالتأكيد على زيادة الوعي الذاتي.

الوعي بكل جانب فيك على حدة وتنميته هو محور مهم في تنمية الوعي الذاتي. وقد تطرقت للجوانب المختلفة في تدوينة: هل تحاول تحقيق التوازن في حياتك؟ – الجوانب الخمس لتحقيق التوازن الداخلي إن أردت المرور بالتدوينة. وهناك أيضًا محور آخر لا يقل أهمية وهو وعي المواقف. نحن نمر بمواقف كثيرة في حياتنا وللأسف أغلب الأوقات تمر مرور الكرام. لابد أن تستوقف نفسك عند المواقف والأحداث، وتبدأ بالتفكر والتأمل فيما حدث فعلًا بشكل حيادي وكأنك جزءً خارجيًا عما حدث بقدر ما تستطيع، لا تعطي لنفسك مجال للتبرير والتوضيح، وحتى تستطيع أن تصل لهذا المستوى، أعطي نفسك بعض الوقت لتهدأ، ومن ثم أسأل نفسك السؤال الجوهري: ماذا تحت سيطرتي حتى أغيره مستقبلًا؟ وهذا سينقذك من الغرق في الاجترار، وهو أن تُعيد التفكير فيما حدث وتعيش في الماضي وتغرق أكثر فتبدأ بتأنيب الضمير ولوم الذات على ما فعلته أو ما لم تفعله وتغرق أكثر وأكثر فتبدأ في تصور سيناريوهات لم تحدث وتتكون نتيجة ذلك مشاعر خداعة كالغضب أو القهر أو الحسرة أو الحزن وغيرها.

المواقف التي نعيشها والأشخاص الذين نقابلهم والتجارب الجديدة والغنية بالمواقف والأشخاص تزيد من الوعي إن أنت فعلًا استوقفت نفسك وتفكرت من غير لوم نفس أو اجترار. ما حدث قد حدث، وكل ما عليك الآن هو التعلم مما حدث إن كان يحمل هذا الحدث في طياته رسائل ودروس، وإلا فامضِ في حياتك.

رحلتي في التوعي بذاتي لم تنتهي وليس من المفترض أن تنتهي. لذلك لن تنتهي هذه التدوينة ولن تقف عند هذه الأسطر.

دمتم في سلام

التعليقات

    محمد
    May 1, 2021

    موضوع عميق
    وذكرتي جوانب عميقة فيه مثل
    ١- الوعي الذاتي لا يأتي دفعة واحدة بل يتدرج من الخارج للداخل.
    ٢- ذكرتي المرور بالمواقف وتأملها، ومع اني مؤمن أن كلمة تأمل مبهمة ومتغيرة لدى كل كاتب وكنت اتمنى الإسهاب.
    ٣- ذكرتي: الوعي بكل جانب فيك على حدة وتنميته هو محور مهم. (لماذا؟)
    ما اقصده، انتِ تذكرين جوانب جدًا عميقة! وبعدها تسيرين مبتعدة سريعًا عنها لمحور آخر للمقال دون محاولة لإسهاب أو توضيح، وكأنه لديك قائمة "check list" تحاولين انهاءها، أشعر أنك قتلتي عمق الفكرة وسطحتيها قليلًا.

    0
    0
      أسماء
      May 3, 2021

      شكرًا محمد على مرورك بالتدوينة وعلى التعليق
      فعلًا التأمل هي كلمة واسعة جدًا وتحتمل معاني وطرق كثيرة وبالعكس هذا المغزى، فكل إنسان له طريقته في الوقوف على الأحداث في حياته قد تكون عن طريق الكتابة أو بمجرد الجلوس واحتساء مشروب والتفكير في الموضوع ومحاورة النفس أو حتى التفكير في موضوعٍ ما أثناء القيام بأنشطة مختلفة كالرياضة أو قيادة السيارة أو القيام بأعمال المنزل. كل شخص يختار الطريقة الأفضل والأبسط له لأني أؤمن إن تم تقييد الفكرة بخطوات قد تعيق البعض في التنفيذ والاستفادة من الممارسة.
      وبالنسبة للوعي بالجوانب المختلفة ففعلًا مررت بها سريعًا لأني تبحرت فيها أكثر في تدوينة أخرى إن أحبب قراءتها وهي تدوينة: هل تحاول تحقيق التوازن في حياتك؟ الجوانب الخمس لتحقيق التوازن الداخلي
      وشكرًا للإشارة لهذه النقطة فقد قمت بإضافة توجيه في هذه التدوينة لمن يريد الإسهاب أن يقرأ تدوينة التوازن الداخلي.

      دمت بسلام..

      0
      0
    (واصبر نفسك “مع”) – عن المعية والمحيط الداعم | بصيرة الذات
    September 30, 2021

    […] الخطوة الأولى: الوعي. وهو أن تشعر بالأعراض ووجود خطبًا ما. وتحدثت عن بناء الوعي الذاتي في تدوينة تحليل شفرة الوعي الذاتي. […]

    0
    0

شاركني رأيك

لن يتم نشر بريدك الالكتروني
لن يتم نشر بريدك الالكتروني

تدوينات أخرى

استمع للتدوينة